الهوس بالإيجابية… كيف أصبحت سبب تعاستنا؟

 

نحن نواجه اليوم وباء نفسي يتلخص في أن الناس ما عادوا يدركون بأنه لا توجد أدنى مشكلة في أن تسوء الأمور في حياتهم في بعض الأحيان، أعرف أن هذا يعد صادماً من الناحية الذهنية، لكنها هي هذه الحقيقة فحسب. وذلك بأننا لم نعد نرى أن ليس من المقبول أبداً أن تسوء الأمور أحياناً، فنبأ على نحو غير واعٍ بإلقاء اللوم على أنفسنا، نبدأ بالإحساس بأن فينا شيئاً مغلوطاً في أعماقنا، وهذا ما يدفع بنا إلى مختلف أنواع المبالغة في التعويض عن ذلك الخلل الذي نتصوره، تعويض في أن نشتري أشياء لا نحتاجها مثل أن نشتري أربعين طقماً لممارسة الرياضة ونحن لا نمارسها في حقيقة الأمر.

إن هذا الاعتقاد بأنه غير مقبول أبداً أن يكون لدى المرء نقص ما في بعض الأحيان هو مصدر تنامي ما يدعى ( بحلقة الجحيم الذي يعيد نفسه)، تلك الحلقة التي أصبحت مهيمنة على ثقافتنا. إن فكرة عدم المبالغة في الاهتمام بأشياء كثيرة، ليست إلا طريقة بسيطة في إعادة توجيه توقعاتنا وأملنا في الحياة وتحديد ما هو هام وما هو غير هام. يقودنا تطوير هذه القدرة لدينا إلى شيء أعتبره نوعاً من ( الإشراق) أو (الاستنارة العملية). إنها ليست الراحة الأبدية والسحرية، ليست هي نهاية المعاناة كلها.. ليست تلك الأنواع التافهة من (الإشراق)، بل على العكس تماماً أعتبر الاستنارة العملية نوعاً من الإحساس بالراحة باتجاه فكرة أن هنالك دائماً قدراً من المعاناة الذي لا يمكن تجنبه، وأن الحياة مكونة من فشل ومن خسارة ومن ندم ومن موت أيضاً. عندما تتوقف عن الانزعاج من مختلف أنواع المساوئ التي ترميك الحياة بها، فإنك تصبح شخصاً منيعاً تجاهها من غير أن تبذل جهداً كبيراً. ففي نهاية المطاف، تظل هي الطريقة الوحيدة للتغلب على الألم بأنك تتعلم أولا كيف تتحمل ذلك الألم.




تركز ثقافتنا اليوم تركيزاً مفرطاً يكاد يكون حصرياً على التوقعات والآمال الإيجابية إلى حد غير واقعي، وأن تلك النصائح التقليدية للحياة ( كل الأشياء الإيجابية المفرحة المصممة للمساعدة الذاتية التي تتردد على أسماعنا طوال الوقت)، هي في الواقع نصائح تركز على ما أنت عليه إنها موجهة توجيهاً دقيقاً إلى ما تراه من نقائضك الشخصية ومواضيع فشلك، وهي تشدد عليها حتى تراها جيداً. والمفارقة أن هذا التركيز القوي على ما هو إيجابي لا يفعل شيئاً غير أن تذكرنا مرة بعد مرة بما لسنا عليه، أو بما نحن مفتقرون إليه، أو بما يجب أن نكونه لولا فشلنا.

يحاول كل شخص وكل إعلان ، جعلك مقتنعاً بأن مفتاحك للحياة الجيدة هو وظيفة أفضل من وظيفتك أو سيارة أفخم من سيارتك، ويخبرك العالم كله دائماً أن الطريق إلى حياة أفضل هو المزيد والمزيد و المزيد، وأنت تجد نفسك دائماً تحت وابل من الرسائل التي تدعوك كلها إلى الاكتراث أكثر فأكثر بكل شيء، وطيلة الوقت.

والسؤال هنا لماذا؟

لأن الاهتمام أكثر بأشياء أمرٌ ملائم تماماً لمصالح الشركات. إن المبالغة في الاهتمام بذلك أمر سيء لصحتك العقلية. إنه يجعلك زائد التعلق بما هو سطحي ومزيف، ويجعلك تكرس حياتك لملاحقة سراب سعادةٍ أو إحساس بالرضا. ليست قوة الاهتمام بالحصول على ما هو أكثر مفتاحاً لحياة جيدة، بل المفتاح هو الاهتمام الأقل، الاهتمام المقتصر على ما هو حقيقي وهام.

حلقة الجحيم الذي يعيد نفسه:

ينتابك القلق فيما يتعلق بمواجهة شيء ما في حياتك. ثم يجعلك هذا القلق عاجزاً عن فعل شيء، وتبدأ التساؤل عن سبب قلقك هذا. أنت تصبح الآن قلقاً بخصوص ما يتعلق بقلقك، إنه قلق مزدوج، مكرر! وهذا يسبب لك مزيداً من القلق. لنقل إن لديك إحساساً شديداً بالذنب نتيجة كل غلطة ترتكبها إلى حد يجعلك تبدأ الإحساس بالذنب تجاه نفسك لأن لديك هذا الإحساس بالذنب كله.

أهلا بك في حلقة الجحيم الذي يعيد نفسه

فمن خلال الأعاجيب التي تفعلها بنا ثقافة الاستهلاك ورسائل من قبيل (( أنظر حياتي أجمل من حياتك)) التي تمطرنا بها وسائل التواصل الاجتماعي، قد أنتج جيلاً كاملاً من الناس الذين يظنون أن امتلاك هذه التعابير السلبية- القلق، الخوف، والإحساس بالذنب، أمر غير جيد على الإطلاق. فإذا نظرت إلى ما يأتيك من خلال التواصل الاجتماعي، فأنت تلاحظ بأن كل شخص في العالم يعيش وقتاً رائعاً، أما أنت فإنك تجلس في بيتك تشاهد الجوال، لا يمكنك التفكير عند ذلك إلا في أن حياتك بائسة، بل إنك تراها بائسة أكثر حتى أكثر مما كنت تظن.  

لقد أصبحت حلقة الجحيم الذي يعيد نفسه، جائحة متفشية في كل مكان، وهي تجعل الكثيرين من واقعين تحت ضغط نفسي زائد، تجعلهم متوتري الأعصاب كثيراً، وتجعلهم يكرهون أنفسهم إلى حد مبالغ فيه. وهذا ما يجعل عدم الاكتراث أمر حسناً، هذا ما يجعل عدم الإفراط في الاهتمام هو ما سينقذ العالم. من خلال عدم اكتراثك بأن يكون لديك شعور سيء، فإنك تبطل مفعول الحلقة. أنت تقول لنفسك "لدي إحساس سيء! حسناً ما أهمية هذا؟ ثم تجد أنك قد توقفت عن كره نفسك لأن تشعر بهذا السوء كله.

إن الحل لقلقنا وتوترنا موجود أمامنا تماماً، لكنا منشغلون عنه بمشاهدة الأفلام وبرامج التواصل الاجتماعي والاعلانات التي لا نفع منها إلى حد يجعلنا غير قادرين على رؤية ذلك الحل لأننا نمضي أوقاتنا في التساؤل كيف نحسن أجسادنا لكي نبهر الناس بجماله وترتيبه. المشكلات الصحية الناتجة عن الشدة النفسية واضطرابات القلق وحالات الاكتئاب، التي شهدت زيادة صاروخية، أن كلاً منا أصبح لديه جوال وقادراً على طلب مشترياته وتوصيلها إلى المنزل، لم تعد أزمتنا مادية، بل هي أزمة وجودية، أزمة روحية. لدينا كثرة زائدة إلى حد يجعلنا غير عالمين بالشيء الذي يجب أن نمنحه اهتمامنا. نحن نتمزق من الداخل لأن هنالك ذلك الشيء الخاطئ في طوفان الهراء الذي يأتينا تحت عنزان ( كيف أكون سعيداً).

إن الرغبة في مزيد من التجارب الإيجابية تجربة سلبية بحد ذاتها، والمفارقة أن قبول المرء تجاربه السلبية تجربة إيجابية في حد ذاتها. أي فكرة أنك كلما سعيت إلى أن يكون إحساسك أفضل طيلة الوقت كلما تناقص رضاك، لأن ملاحقة شيء ما لا تفعل إلا تعزيز حقيقة أنك مفتقر إلى ذلك الشيء أصلاً. لن تكون سعيداً أبداً إذا واصلت البحث عما تتكون الساعدة منه. ولن تعيش حياتك أبداً إذا كنت من الباحثين عن معنى الحياة.

الكاتب هتان المدني
بواسطة : الكاتب هتان المدني
هتان المدني كاتب ومؤلف لدي كتاب بعنوان ( في سجن عزلتي )، بدأت الكتابة قبل حوالي سنة ونصف ولكن تجربتي الشخصية التي أنت عنها كتابي كلفتني عزلة مجتمعية أكثر من ثلاث سنوات
تعليقات